حينما يكون ما تقوم به لا معنى له. يكون السؤال الملح: لماذا أعمل هذا؟ هذا السؤال الذي له علاقته المباشرة مع المعنى الكلي للوجود، يجعل سؤال العمل شديد القسوة على الإنسان. ومن صميم مفهوم العمل: الكسب. ويعرّف عند الكلاميين بأنه “الفعل” بقدرةٍ محدَثة. والكسب في عموم معناه، هو الحصول على المطلوب ببذل الوسع في طلبه. ومفهوم الكسب أو التكسب طوّره القرآن بطريقة لم تعهدها البشرية، وهي أن الكسب لا يرتكز في فضاء “المادة” أو المحسوس وفقط. بل الأهم الذي قرره القرآن أن هذا الجزء من الكسب: الذي يقع في حيز الحياة الدنيا ــ المحسوسات ــ ما هو إلا أدنى درجات الكسب، وأن حقيقة التكسب والاكتساب هو الجمع بين كسب المحسوس وغير المحسوس. وأن الإنسان الذي لا يفوز بنصيب من كسب غيبيّ (عالم الروح)، سيكون كسبه المادي لغزاً يكتنفه الغموض والغرابة لغياب معانيه، أو انفكاك المعنى عن العمل ليبلغ أقصاه ليصبح أداة في هلاكه. ولذلك قرر القرآن قاعدة المعنى هذه، وأس الوجود منذ البدء، بقوله سبحانه (واسْئَلُوا اللَّهَ مِن فَضْلِهِ إنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا)! يا لله كم هو هذا الفضل في فناء الوجود! وهل حدوده قابعة في المحسوس؟ كلاّ! ومن هنا كان للرجال نصيب من الاكتساب وللنساء نصيب من الاكتساب بهذا البعد الغيبي، ولا يمكن الحصول على هذا النصيب إلا من خلال العمل، ولا معنى لهذا العمل في تقطّع سبل “الفضل” الإلهي جل جلاله سبحانه.
واختلال هذه الحقيقة الدقيقة لدى الإنسان ــ الكسب المحسوس وغير المحسوس، أي، وينطبق على حظيّ الدنيا والآخرة ــ أنتج الصدع الإنساني في الوجود، والذي كان بدوره مسؤولاً عن “ميلاد النسوية” كلها في التجربة البشرية. هذا الصدع نشأ عن حبس مفهوم الاكتساب في حيزه المادي وفقط. وجعل الانسان يعيش كل يومه من أجله، فأفرز هذا المفهوم كل الأخلاق الذميمة من الحسد والأنانية والجشع والإفراط في طرق الكسب فكان الظلم. قَصْرُ مفهوم الكسب في البعد المادي كان السبب الأول والأخير في امتهان المرأة، وكذلك امتهان المرأة لذاتها. ونزع النصيب الغيبيّ من مفهوم الكسب، لم “يقطع” يد الضعيف وفقط، وترك يد القوي تصول وتجول، وإنما “قطع” حياة الضعيف بالكليّةِ ومنح حق الحياة كلها للإنسان القوي. وهنا لا نعني إزهاق حياة الجسد ـــ بالرغم أن هذا جزء من القطع، ولكنه الأقل بشاعة. وإنما جعل الإنسان الضعيف (نعني بالضعيف في سياق مقالتنا هذه: المرأة) “يعمل” كل يوم عمل لا ينتمي له، ولا يعني له شيء، ولا ينفعه بشيء إلا أن يجعله قادراً على الوجود لا على الحياة. فهو لا أمنية ولا تمني، وعمل دؤوب ولا قيمة له إلا في “امتهان” العامل به. استمع إلى فيرجينا وولف معترضة على كل شيء في هذه الحياة لأنها اعتبرت أن الحياة أصبحت كلها حياة الرجل القوي الذي قطع عن المرأة كل معاني الحياة:
ما هذه التي يسمونها “الحضارة” التي وجدنا أنفسنا فيها؟ ما هذه الاحتفالات العظيمة، ولماذا كان واجباً علينا أن نكون جزءً منها؟ ما هذه المِهَن؟ ولماذا يكون واجباً علينا أو حقاً لنا أن نتقاضى المال بالعمل فيها؟ وباختصار، إلى أين ستقودنا “مسيرة” هؤلاء الأبناء ــ أبناء الآباء المتعلمين؟ [لا أبنائنا].
إذا أنصت بقلبك لهذه التساؤلات، تسمع فيها أزيز الألم في صدر الوجود. هذا كشف بيّن وظاهر لمعاناة الإنسان الذي اضطرب عنده “مركز العمل،” بسجنه في نسق الكسب المادي والفضل الدهري، لا الربانيّ. والله سبحانه “مركز المركز،” وبدونه فإن الإنسان يضطرب في كل شيء، وهذا الاضطراب الوجودي يفيض خوفاً وقلقاً عند كل ركن من أركان الحياة. وكل منعطف منها. فلم يعد هناك انتماء لا للآباء ولا للأبناء. وبُغض للانتماء أو القيام بأي شيء من أمور المجتمع/الحضارة إذ أن المجتمع لم يعد منهن ولسن هن منه. أنت ترى الآن كيف أن الفردانية قفزت كحق مشروع، وخيار سائغ للنظريات النسوية.
وستتضح الأزمة الوجودية الناتجة عن قطع مقولة الغيب في الكسب والنصيب في كلمات مؤسسة النسوية الليبرالية بيتي فريدان حينما قالت:
لقد كان احساساً غريباً، يكتنفه الغموض. شعور بعدم الرضا، توق مؤلم (=وهذا هو موضع التمني) عانته النساء في منتصف القرن العشرين بالولايات المتحدة. عانت منه ربات المنازل، كلٌ على انفراد، في وحدة [وجودية] قاسية: عند ترتيب سرير النوم، وأثناء التسوق لأغراض المطبخ والطهي، عند النظر في مقاسات الأقمشة الخاصة بتغطية أرائك المنزل لتركيبها، وعند تناول الطعام مع أطفالها، وأثناء توصيل الأطفال لأنشطة الكشافة في المدارس، وأثناء النوم بجانب زوجها بالليل ـــ ينبعث من وجدانها سؤال صامت مخيف تحاول الخلاص منه: هل هذا كل شيء؟
هذا هو البعد الانطولوجي الغامر في لُجّة التجربة الأنثوية لدى الغرب: هل هذه حياة الأنثى؟. تصحو المرأة كل يوم لتعمل، وما هو هذا العمل؟ هو كل شيء. تعمل منذ استيقاظها صباحاً حتى تخلد إلى النوم ليلاً، منهكة القوى. ولا معنى لهذا كله. إنه سلب الحياة الحقيقي من الإنسان أن يكون دورك هذا عمل بلا معنى. ومن هنا يصبح كل دور للمرأة لا معنى له. ومن هنا تنهار مكانة المرأة. إذا أردتم أن تفهموا كيف للأمومة أن تفقد قيمتها، أو للمرأة أن تبغض دورها كزوجة، فهذا هو الصدع الوجودي الذي ينبعث منه الخلل. فلم تعد الأمومة أو الزوجية تعني أي شيء. لأن النصيب والكسب قد انفصل عنه البعد الغيبيّ. ولأن هناك أمنية جديدة منبعها مخالفة النهي {وَلَا تَتَمَنَّوْا}.
ولو نظرنا في عمل النساء اليومي، لكان حقاً بأنه عمل طويل وشاق في بعده العضلي والذهني والنفسي. ولا غرابة أن يكون هناك مشقة في العمل فهي طبيعة العمل وطبيعة البشر، وهذا الذي دفع علي وفاطمة رضي الله عنهما لاستشارة المصطفى بأبي هو وأمي بأن يتخذا لهما خادمة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم {إذا أوَيْتُما إلى فِراشِكُما، أوْ أخَذْتُما مَضاجِعَكُما، فَكَبِّرا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، وسَبِّحا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، واحْمَدا ثَلاثًا وثَلاثِينَ، فَهذا خَيْرٌ لَكُما مِن خادِمٍ}. وهذا هو أصل تجربة القرآن التي تقيم “الكسب” من النصيب في ملكوت الغيب ليكون لكل هذا العمل الشاق معنى لا يخفف مشقته فحسب، بل يبدّله ويغير جوهره من عمل شاق إلى عمل سارّ. هذه المشقة التي وقفت إزاءها المرأة الغربية (وبالأحرى، غير المتصلة بنصيب الغيب)، جعلت كل ما تقوم به من عمل ما هو إلا من قبيل “حكم القوي على الضعيف.” والذي زاد (تجربة العمل) بؤساً وشقاءً، هو امتهان القوي لكل ما يقوم به الضعيف ــ ونعني هنا المرأة. بل وتنزيه القوي نفسه عن القيام به، ووصفه ووصف العامل به: بانحدارٍ “وجوديّ” في أصل الخلقة، وتبرير هذا القول بأنه حكم الرب. ومن هنا تحديداً، كان هذا الصدع ــ التمني ــ في الوجود الأنثوي الذي انبجست منه مذاهب النسوية كلها. لأنها تمنت ألا تكون هذا الكائن الأنثوي كردة فعل للظلم الواقع عليها. وهناك علاقة عميقة جداً بين الكسب/العمل والتمني. إذا أن الإنسان لن يكون قادراً على التمني مالم يكن هناك استطاعة أو مقدرة على الكسب. بمعنى، لو كان مكون الكسب ليس من حياة الإنسان، لما كان هناك تمننٍ على الإطلاق. وهذا من طبيعة خلق الملائكة. وهذا يكشف عن العلاقة البيّنة بين الكسب والتمني. ولأن الكسب انحسر وانحبس في بعده المادي الدنيوي، وقام بتغييب الآخرة ونصيبها من هذا الكسب، اختل ميزان “التمني” لدى الإنسان.
فالنسوية في أصلها ممارسة فلسفية لمعنى العمل. هي بحثٌ عن “العمل” ذي المعنى الذي يعيد إليها بشريتها، الذي لم تجده، لا في الدين ولا في الواقع اليومي المعاش. وحاولت إيجاده في إعادة تفسير الوجود الإنساني وتفسير الحياة حتى تستخرج لكل ما تقوم به معنىً يمدها بالكرامة وينتشلها من الهوان. ثم إن للقوي خطاب أدبي/معرفي، هو خطاب: امتهان “عمل الضعيف” أو امتهان “دور” الضعيف في المجتمع، والذي به ــ أي الخطاب ــ قطعوا عن المرأة الحياة: لا يدها فحسب، بل عقلها، وقلبها وجوهرها ومعناها. ولكن الحق أن الإنسان (القوي والضعيف) يتقلب في ظلمات الضعف ظلمة من فوق ظلمة، ولا سبيل للخلاص من المعاناة ــ بأن يبتكر الإنسان حلاً منه أو خلاصاً وجودياً له، وإنما هذا من إمكانات الدين الذي يشرعه الله سبحانه وحده. فالقوي الذي استبد بالمرأة ووأدها في تاريخ العرب قبل الإسلام ووأدها في ماضي الغرب وحاضره اليوم، لم يسمح قط، ولن يسمح لهذا الضعيف من الانعتاق من ربقة الضعف مالم يستغله قدر ما يجد عليه من سبيل.
وبسبب بتر الغيب والآخرة من مفهوم الكسب والنصيب، ابتكرت النظريات النسوية ـــ التي انبجست من صدع التمني ـــ مذاهب عديدة كلها تقدم حلولاً لمعاناتهن المتمثلة في التالي: “عمل” النساء (الفتاة، الزوجة، الأم) في الحياة و”دورهن” موصوم بالتفاهة والدونية. وهذا هو معنى “العمل” بالنسبة لكثير منهن. كل هذه المذاهب، التي تتفق مع بعضها تارة وتختلف تارة، سعت إلى كسب حقها وانتزاع نصيبها من الذكر الظالم لها من خلال “التمني.” القائم على مخالفة نص الله سبحانه وتعالى في {وَلَا تَتَمَنَّوْا}. انبجست جميع المذاهب النسوية من هذه الكلمة تحديداً. فالنسويات تمنين كل شيء بما في ذلك “عالم الرجل” المُعاش بشكله اليومي، وبعبارة القرآن “تمنوا نصيب الرجال” من الكسب الدنيوي. وليت الأمر وقف هاهنا. وإنما ذهبت المرأة إلى “التمني” بأن تكون رجلاً بصفات رجل. فهي تمني الانوجاد في كينونة لا تكون أنثويةً أبداً، فلم تختار أن تكون لا من الجمادات أو الحيوانات أو النباتات لأن هذا غير ممكناً، فلم يتبق إلا كينونة الرجل والرجولة. وحينما كان العرب يصفون المرأة بالمسترجلة، فإنهم كانوا يصفون ظاهرة خاصة جداً لم تفهمها التجربة الغربية برمتها. إذ أن هذه المرأة المسترجلة ماهي إلا أنثى في الأصل: طبيعةً ووجوداً، وإنما اتصفت في ظاهرها، بصفات الرجال. فهي كائن أنثوي ذات صفات ذكورية، وينتهي الأمر هاهنا. وهذا يختلف كل الاختلاف عن التجربة الغربية للأنثى، إذ أنها ذهبت تحاول إلى ما وراء الاتصاف بصفة الذكر أو الرجل، ذهبت إلى كينونتها الأنثوية واحلال كينونة الرجل فيها. فكان كل هذا التمني، وكل هذا الكسب، وكل هذا النصيب، دهريّ منزويٌ في عالم المحسوسات والمادة. ولكن القرآن انتزع هذه المفاهيم (التمني، النصيب، الكسب) من نسق الدهريّة وجعله متصل تمام الاتصال بحقيقتها، بأنها لا تنفك عن نصيب الغيب ولا كسبه، بل وهذا الذي يجعل الكسب والنصيب الدنيوي أدنى رتبه من نصيب الغيب الذي يبدّل المشاق إلى مسرّات. فقد بلغ بالمرأة التمني أقصويته حينما سعت وراء أمنيتها بالتوسل للمادة بإحلال كينونة الرجل في كينونتها الوجودية، فكان “ميلاد العمليات الجراحية” التي تقطع في الجسم وتُلصق وتغير خلق الله، فخلقوا لنا كما خلق السامري أنثى جسداً “لها” (ملامح رجل). وتغيير خلق الله بهذا الفعل كان أول طريقه “التمني”، ولا عجب أن الشيطان حينما عزم على إغواء الإنسان بتغيير خلق الله وعد بوعده {ولأمنينهم}. ولولا هذا التمني الذي نهى الله سبحانه الرجال والنساء عنه لما بلغ المشهد إلى هذا المأزق الوجودي البئيس. ولا يكون هذا ــ تمني الأنثى بأن تكون رجلاً ــ إلا بغياب التوحيد لأنه مفهوم لا يسمح بالحلول. فلا يحل شيء في شيء ألبتة. ومن هنا كان هذا الفعل النسويّ دليلاً صريحاً على أنه إفراز من إفرازات الكفر. ولأن هذا كله كان منبجساً من عصيان الله في “تمني” ما لا يجوز تمنيه، والغياب التام لسؤال الله من فضله، هو حقيقة التنكر لله، كان كل هذا التمني.
وكان السبيل إلى الخلاص من هذا كله إلى فهم “العمل” الذي تقوم به المرأة وما هو من كسبها وما هو من كسب الرجل ثم لا يكون التمني إلا ما كان موافقاً للكسب المخصص لكل فريق. فإن من فهم المسلم ويقظته انتباهه إلى أمانيه وأمنياته، فإن الله سبحانه قبلة أمنياته كلها.