وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته،
أهلاً بالعزيز،
الشغف هو [خطاب] الشركة، أي الخطاب الرأسمالي الذي صُمم وصيغ لمنح الإنسان قيمة ومعنى في الحياة يغطي بؤس الكدح الرأسمالي المتواصل. يجب أن ندرك أن الرأسمالية منذ البداية على إدراك بالفرق بين [العمل ــ المفهوم التاريخي/القديم] وبين [الانتاجية ــ العمل بالمفهوم الحديث] كمفهومين ينتمي كل واحد منهم لحقبة تاريخية مختلفة.
أما العمل فهو جزء أساسي من الطبيعة البشرية للناس. العمل هو من أجل الأسرة، ومن أجل البقاء وهو كالأكل والشرب والهواء. هو للإنسان وأسرته وعشيرته (وليس للغرباء). وبذلك لا نحتاخ لأي خطاب ديني أو معرفي يشرّع الحاجة إلى العمل، لأن هذا هو الذي يصنعه الإنسان بطبيعة الحال: يعمل ليعيش، فهو مفهوم عفوي وفطري يكاد يتطابق مع مفهوم العيش ولا يحتاخ إلى تفسير معرفي لكي يحدث. وهذا بالتأكيد ينطبق على الجميع سواءً كانوا ذكوراً وإناثاً. ومن هذا المنطلق فإن سؤال [عمل المرأة] كمجرد عمل لا معنى له، فالنساء يعملن منذ أول لحظة دُوّنَ فيها التاريخ. النساء يعملن في المزارع والماشية والطبخ والخياطة وغيرها من الأعمال. ولكن من أهم ما يميز مفهوم العمل عن مفهوم الانتاجية أن الطفل مركزي ومحوريّ الوجود في مفهوم العمل وهامشي في مفهوم الإنتاجية.
إذ أن الرجل لا ينوي أن يكوّن أسرة إلا من أجل الذرية، وكذلك المرأة تسعى للزوجية لرغبتها في الذرية. ومن هنا كان طلب الإنسان للمال من أجل البنوة، وحينما تجتمع نيات وحاجات الرجل والمرأة والذرية مع بعضها البعض، يتحقق ما نسميه [الأسرة]. أي يصح القول، أن الجميع يطلب أن يعيش في أسرة. والطفل أهم مكوّن من مكونات مفهوم الأسرة. الطفل بالنسبة للأسرة كالجاذبية بالنسبة للأرض، فالطفل قانون الأسرة وعمادها. والعمل مفهوم عاديّ مغمور في الأسرة معناه أن نعيش سوياً ونأكل سوياً، وقد يضحي الأب تحديداً بوقته ونفسه من أجل بقاء هذه الأسرة.
وبذلك لا يمكن الحصول على المال مالم يكن هناك عمل، ولا يمكن الحصول على الأولاد مالم يكن هناك: أسرة: زوخ/ زوجة = أبناء.
يتضح الآن أن العمل لم يحتاخ عبر التاريخ إلى مفسر منطقي وإنما كل الحاجة له تمثّلت في الترابط الأسري. وفقط. بينما تجد ألوف الورقات والصفحات اليوم عن قيمة العمل ومعناه وهوية الأفراد وعلاقتها بالعمل، وهذا كله خطاب أيديولوجي خاص بمفهوم [الإنتاجية] على وجه الخصوص. والشغف هو الخطاب المسؤول عن الجانب الروحي.
إذا قلت إن الطفل بالنسبة للأسرة كالجاذبية بنسبة للكواكب، فأنت تعيد بناء الأسرة من جديد. بمعنى، أن الخطاب يتحول من استقرار الحياة[الزوجية] إلى استقرار الحياة [الأسرية]. أي، أن الأسرة لا تستمد استقرارها من خلال نجاح علاقة الزوجين فيما بين بعضهم البعض، وإنما تستمد الأسرة استقرارها بفرض احتياجات الطفل الدنيوية والأخروية على الزوجين. ويصبح معيار الاستقرار هو انقياد الزوجين لاحتياجات الطفل الدنيوية والأخروية. أي أن الأسرة تدور في فلك الطفل، لا أن يدور الطفل في فلك الزوجين. الفكرة هنا لا تعني أن نجاح الأسرة في الاستجابة لاحتياجات الطفل الدنيوية والأخروية يسبب استقرار الحياة الزوجية، وإنما الفكرة تطرح قضية أن احتياجات الطفل الدنيوية والأخروية هي قبلة الأسرة لأن الزوجين لم يلتقيا إلا من أجل الطفل. أما إذا كان السبب الذي جمع الزوجين، أي أمر كان، باستثناء الطفل فإن هذه الأسرة قد فقدت قِبْلَتها. بمعنى، أن احتياجات الطفل الدنيوية والأخروية تمثل الطريق الذي يسلكه الزوجين. وأثناء الطريق لكل زوخ على الآخر حق وآداب. غياب الطريق، هي أسرة بلا معنى وتنتظر معنى تعتنقه أياً كان هذا المعنى: الرومانسية، أو النجاح، أو الثروة، أو العشق، أو أسوأ من كل هذا، أسرة ليس لها رغبة لا في الأطفال، ولا للزوجين رغبة في بعضهما البعض، وإنما الرغبة في فردانيتهما عبر لغة النجاح وتحقيق الأهداف الذاتية.
وحينما نقول أن العمل هو العيش إذ أنه لا يوجد إنسان إلا وهو عامل من أجل مصلحته. ومتى ما أخفق في العمل أصبح تافهاً وهان على الناس. ولكن الذي يميز مفهوم [العمل ــ المفهوم التاريخي/القديم] هو أن الإنسان مهما أخفق في دوره إلا أنه قادر على العمل والبدء من جديد في أي لحظة زمنية شاء، وأي لحظة من عمره كان. أما مفهوم [الانتاجية ــ العمل بالمفهوم الحديث]، فإن الإنسان لا يملك إرادة العمل من ذاته. وإنما المؤسسة هي التي تمتلك إرادة العمل للآخرين. وأن هناك معايير محددة إذا لم تتوافق مع الفرد فإنه، على الأرجح، سيبقى عاجزاً أن يعمل عمل يحقق له أن يكون في أسرة. قد يجد عمل له هو كفرد يحقق له الحد الأدنى من العيش، ولكن لا يمكن له أن يتحقق له أسرة متكاملة. أي، أن مفهوم الإنتاجية، وهي [العمل] بالمعنى الحديث، ينزع عن الأفراد إرادة العمل من ذواتهم أولاً، وثانياً، هو عمل من الأجل الفرد وليس من أجل الأسرة. أي أننا في لحظة من التاريخ تعتني بمعالجة تحديات الفرد، لا تحديات الأسرة. لأنه في حالات كثيرة قد تكون فيه الأسرة ضد الإنتاجية.
أي، أن مفهوم الانتاجية هو العمل المؤدلج. في حين أن مقولة الشغف خطاب ايديولوجي لمعالجة كراهية [أدبيات الانتاجية]. ومن هنا تكتسب مقولة الشغف أهميتها في مواجهة هذا التحدي. إذ أن مفهوم الإنتاجية بالمعنى الحديث معني غير طبيعي، ومصطنع لأن الانتاجية هي العمل من أجل الآخر (الغريب) الذي لا يعرفه العاملين في الشركة. الانتاجية هي تحديداً [الوحدة المالية]. أي، الأرباح. بينما العمل لم يُفسر قط [كوحدة مالية]، العمل كان ولم يزل طعام تأكله الأسرة مجتمعة بعد مشقة يوم طويل يقوم به الوالدين سوياً، وكذلك الأبناء الكبار. العمل هو النظر لهؤلاء الأبناء وهم يأكلون الطعام بفرح، والعمل هو توفير المأوى، واللباس الدافئ.
بينما الانتاجية تنعكس على العاملين [بالدخل] و [الراتب]. الانتاجية هي الرصيد البنكي. الانتاجية هي الاستهلاكية. الانتاجية هي الفردانية. الانتاجية عمل يكرهه الناس بالسليقة، لأسباب كثيرة منها أن الناس لا يشعرون فيه بالانتماء (كمفهوم العمل انتماؤهم للأسرة). ولا يشترك مصير العاملين مع مصير مُلّاك الشركات، ومدراء المؤسسات. بل إن مفهوم الانتاجية قائم على الاستغلال، استغلال العاملين (في حين أن العمل قائم على مفهوم الايثار/العطاء. بعبارة أخرى، تقزيم مطالب الذات أمام المصلحة العامة).
مفهوم الإستغلال الموجود في الإنتاجية والعطاء/الإيثار الموجود في العمل بالمعنى التاريخي هو أن الإنتاجية عمل لا يمتلك العامل. أي أنه يشبه استأجار سيارة منتهية بالتمليك، ولكن أسواء من ذلك. لأن السيارة تنتهي بتملك المستأجر لها في نهاية المطاف. ولكن الإنتاجية هي عمل الفرد المتواصل والدؤوب وفي النهاية ينتهي إلى مرحلة [التقاعد]. هي مرحلة من عمر الفرد لن يكون فيها منتجاً كإنتاجه حينما كان في عمر الشباب، ولذلك لا حاجة فيه. فالتقاعد بهذا المعنى هو في صالح الإنتاجية وليس هدية للفرد. وإنما الإستغلال هو أنه لم يمتلك أي شيء بانتهاء مدة عمله إلا أنه تقاضى المال مقابل جهده وعمره الذي أفناه في الشركة. بينما العمل بالمفهوم التاريخي هو العمل فيما يمتلكه الفرد بنفسه وأسرته وعشيرته. المعنى الدقيق هنا هو أن الإنتاجية والعمل قد قلبا مفهوم التملّك. ففي حين كان العمل بالمفهوم التاريخي لا ينفك عن مفهوم التملك، فإن الإنتاجية هو العكس تماما: أي، هو كثرة العاملين الكادحين فيما لا يملكون. والنزر اليسير فقط من هؤلاء العاملين هم وحدهم القادرين على الإستفادة من هذا المال للحصول على ممتلكات لهم.
الانتاجية كمفهوم لا تكترث بالأفراد العاملين إلا من ناحية تزايد نسبة الأرباح. فإذا كانت صحتهم النفسية والبدنية تعني زيادة الانتاجية، فعندها من الضروري العناية بالأفراد العاملين صحياً. وإذا كان الأفراد لا يشعرون بالانتماء، فبرامج العضوية والخصومات الخاصة للأعضاء المنسوبين للمؤسسة/الشركة وبطاقات العمل الخاصة، وغيرها من الأساليب التي تعزز من انتماء الأفراد والشعور (بالترابط المهني — تسمعهم يقولون: بيتنا الثاني).
كل هذه المعاني والخطابات المنتشرة من الشغف، وتحقيق الذات، وتعريف الذات عبر تقنيات [السيرة الذاتية]، آيات بينات على أن ضوء الأسرة وعطرها والعمل من أجلها قد خفت. وفي المقابل تضخمت الذات ضد الأسرة عبر صقل المهارات وصناعة السير الذاتية المنهية للمؤسسات. هل وجدت سيرة ذاتية للعمل يتكلم فيها الفرد عن أسرته وعشيرته! الإنتاجية جاءت للأفراد.
الانتاجية، هي ليست فقط زيادة الأرباح للشركات، وإنما زيادة الأرباح أيضاً [للأفراد] العاملين. ولذلك تجدهم يتنقلون بين المؤسسات بحثاً وطلباًلعروض مالية مغرية. وكل هذا على حساب الأسرة. وأوضح علامة على هذا هي [انكماش] حجم الأسرة. فتجد هؤلاء الذين يلاحقون المؤسسات والفرص الوظيفية المغرية ذوي ذريات قليلة— لماذا؟
لأن الطفل ليس محوراً مركزياً في مفهوم “الانتاجية”. أو بالأصح، لأن الطفل ليس له دور (مباشر) في مفهوم [الانتاجية]، وإنما مفهوم الطفل في الانتاجية (على العكس من مفهوم العمل) متذبذب أو متأرجح، فتارة تجده يعرقل سير الانتاجية، وتارة تجده يساهم في مفهوم الانتاجية، ولكن هذه المساهمة دائماً (غير مباشرة). وهذه الصفة غير المباشرة هي التي تجعل من مكانة الطفل مكانة متأرجحة بالنسبة للإنتاجية. والحديث في الطفل وعلاقته بالإنتاجية طويل.
عوداً على سؤالك عن الشغف، أقول، هؤلاء الذين تعجبت من حالهم، هم في الحقيقة أبناء الانتاجية، وهو مفهوم يتصف بالكدح الطويل والمتواصل،وجمع نقاط الامتياز، وساعات العمل الإضافية، أو التعرض للعقوبات المالية، واستبداد مدراء الأعمال وتعسفهم. ولذلك، يحتاجون إلى مقولات مثل الشغف وتوكيد الذات والنجاح وصناعة الثروة. هذه المقولات تساعد على تخفيف وطئة البؤس الرأسمالي الحاكم على مناج الانتاجية. وهذه المقولات يرعاها خطاب رأسمالي متمرس ومقنع يُعيد تنميط حياة العاملين. وأن أي شخص يؤمن بهذه المقولات لا يشبه نمط/أسلوب عيشهِ نمط عيش الذي لم يؤمن بهذه المقولات.